التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
عرض لأهم الأحداث في تاريخ الصراع بين الدولة العثمانية والبندقية من بلاد إيطاليا حتى عقد معاهجة بساروفيتس
العثمانيون يسحبون البساط من تحت أقدام البنادقة
لما تَوَسَّع بنو عثمان في تَمَلُّك أراضي أوروبا الشرقية، شَكَّلوا خطرًا كبيرًا على مُمْتلكات جمهورية البندقية فيها، بل شكلوا في بعض الأحيان خطرا على عقر بلادهم بشمال شرق إيطاليا، وخَشِي البنادقة من وقوع بلادهم تحت الحكم العثماني بعد اكتساح العثمانيين المتواصل لأقاليم شرق أوروبا منذ القرن الثامن الهجري، وقد اتَّسَمَت العلاقات بين الدولتين في أغلب تاريخهما بالحُروب المُتطاحِنة كنتيجة حتمية لذلك.
عهد السلطان مراد الأول
قال القلقشندي [1] عن السلطان مراد بن أورخان بن عثمان، المعروف بـ مراد الأول: "تَوَغَّل في بلاد النصرانية فيما وراء الخليج القسطنطيني في الجانب الغربي، وفتح بلادهم، إلى أن قَرُب من خليج البَنادِقة، وجبال جَنَوَة، وصَيَّر أكثرهم أمراء، ورعايا له، وعاث في بلاد الكفار بما لم يُعْهَد قبله من مثله، وأحاط بالقسطنطينية من كل جانب، حتى أعطاه صاحبُها الجِزْيَة، ولم يزل على ذلك، حتى قُتل في حرب الصَّقالِبة سنة إحدى وتسعين وسبعمائة" انتهى.
عهد السلطان مراد الثاني
وفي سنة 1430م (833هـ) فتح السلطان مراد الثاني مدينة سلانيك -سالونيك- التي كان تنازل عنها ملك الروم إلى أهالي البندقية بعد أن حاصرها خمسة عشر يومًا [2].
ثم شاركت البندقية في الحِلْف الأوروبي الآسيوي الذي تَرَأَسَه البابا بيوس الثاني ضد الدولة العثمانية، وعَقَد اجتماعًا لذلك التَّحالُف في مدينة ريجنس بورغ في إبريل سنة 1454م (858هـ)، وعاهدته فيه ثلاثون دولة في أوروبا وآسيا على حَرْب العثمانيين، وبدأت الحرب الكبرى في 3 إبريل سنة 1463م (867هـ)، فهجمت أساطيل البندقية، وغيرها على المواقع البحرية العثمانية، ولكنها صُدَّت، ولم تُحَقِّق انتصارًا يُذْكَر، شأنُها شأنُ حُلَفائِها الذين مُنُوا بهزائم ساحِقة على الجَبْهَتين الأوروبية، والآسيوية، ولكن الله تعالى قَدَّر هزيمة ذلك الحِلْف الكبير أمام جيوش السلطان محمد الفاتح العثماني على الجَبْهَتَيْن الأوروبية، والآسيوية.
عهد السلطان محمد الفاتح
وقد خاض السلطان الفاتح رحمه الله تعالى معارك عديدة ضد البندقية، فقاد الغزوة الحادية والعشرين من غزواته المعروفة بالغزوات الهَمايونِيَّة في صيف سنة 1470م (875هـ)، فاجتاح قِلاع ومواقع البندقية في بحر إيجة [3]، وفتح جزيرة آغريبوز في ذلك البحر.
وفي سنة 1477م (881هـ) أغار السلطان على بلاد البَنادِقة، ووصل إلى إقليم الفريول، بعد أن مَرَّ بكرواتيا، فخاف البَنادِقة على مدينتهم الأصلية، وأَبْرَموا الصُّلْح معه، تاركين له مدينة كرويا التي كانت عاصمة إسكندر بك الشهير، فاحتلَّها السلطان.
ثم غزا سنة 1478م (883هـ) بلاد الأرناؤوط في ألبانيا؛ لتحريرها من البَنادقة، ففتح قلعة عاصمتهم أشقودرة في عام 1479م (884هـ) صُلحًا بعد أن اضطر البَنادِقة لتسليمها له، والتنازل عنها، وخَضَعَوا كارهين لتوقيع معاهدة سلام جديدة مع السلطان الفاتح، في مقابل بعض امْتِيازات تُجارية حصلوا عليها، وكانت هذه أول خُطوة خَطَتْها الدولة العثمانية للتدخل في شؤون أوروبا؛ إذ كانت جمهورية البنادقة حين ذاك أهم دول أوروبا، لاسيما في التجارة البحرية، وما كان يُعادلها في ذلك إلا جمهورية جَنَوَة.
ثم تَوالت الحروب بين البلدين على مَدار عِدَّة قُرون، ولا تكاد الحرب بينهما تهدأ، وتُبْرَم اتفاقية مُصالحة؛ إلا وتعود مُشْتَعِلة مرة أخرى.
عهد السلطان بايزيد الثاني
فقد فتح السلطان بايزيد الثاني مدينة ليبنته من بلاد اليونان -وكانت تابعة للبَنادِقة- بكل سهولة، عقب انتصار العِمارة البحرية العثمانية على مراكب البنادقة التي اعْترضَتْها عند مَدْخِل الخليج المُسَمَّى باسم هذه المدينة، وفي السنة التالية احْتَلَّ العُثمانيون ثُغور مودون، وكورون، وناورين من بلاد اليونان، وكانت من أملاك البنادقة في هذه البحار.
فخافت جمهورية البندقية من تَقَدُّم الأتراك إلى مَرْكز حكومتها من ضياع استقلالها، واستغاثت بممالك أوروبا النصرانية، فأنجدها البابا، وملك فرنسا ببعض مراكب حربية، وساعدوها على مُحاصرة جزيرة ميدللي؛ لإشغال الدولة عن بلادها، فلم تنجح، بل فتح العثمانيون مدينة رودتسو الواقعة على بحر الأدرياتي، ولولا أن قدر الله تعالى عصيان أولاد السلطان بايزيد عليه ببلاد الأناضول -ومنهم سليم الأول- لفُتِحَت باقي بلاد البَنادقِة، لكن اضطرت أحوال المملكة الداخلية السلطان إلى إبرام الصلح مع مُحارِبيه بأوروبا، وهم المجر، والبنادقة، فتَمَّ الصُّلْح بينه وبين جمهورية البندقية سنة 1502م (908هـ)، وفي السنة التالية تَمَّ الصُّلْح كذلك مع ملك المجر [5].
عهد السلطان سليم الأول
وكان البَنادِقَة يدفعون للدولة العثمانية مِقْدارًا من المال، مُقابِل سَماحِها لهم بالبقاء في جزيرة قبرص، وقد جاء سَفير من قبل جُمهورية البندقية عقب رجوع السلطان سليم الأول لمدينة أَدِرْنة بعد هزيمة المماليك، وضَمِّ مصر والشام؛ ليدفع له خَراج سنتين مُتأخر الخَراج المُقَرَّر عليها، نَظِير بقائها في الجزيرة [6].
عهد السلطان سليمان القانوني
ولما تَحالَف السلطان سليمان القانوني مع فرنسا؛ لقتال شارلكان إمبراطور النمسا، أَظْهَرَت جمهورية البندقية العُدوان، ولم تدخل مع الدولة في الحِلْف، فأراد السلطان سليمان الانتقام من جمهورية البَنادِقة على عدم انحيازها لتَحالُفه، مع أنه راعى جوارها، ولم يَغْزُ بلادهم، فأرسل القبودان خير الدين باشا البحري (خير الدين بربروسا) ومعه نحو ألف سفينة؛ لمحاصرة جزيرة كورفو فحاصرها في شهر سبتمبر سنة 1537م (944هـ)، وحضر السلطان الحِصار بنفسه، ولما اشْتَدَّ دِفاع أهلها، أرسل السلطان خير الدين باشا لفتح ما بَقي من جزائر الرُّوم، ففتح أغلبها، وغزا جزيرة كريت، ثم جمع السلطان سليمان ببلاد الأرنؤوط جيشًا عظيمًا، مؤلفًا من مائة ألف مقاتل في مايو من سنة 1538م (945هـ)؛ لشَنِّ الغارة على بلاد إيطاليا، ونزل خير الدين باشا بميناء أوترانو بجنوب إيطاليا؛ استعدادًا لمهاجمتها من جهة الجنوب، بينما يهاجمها السلطان سليمان من جهة الشرق، وملك فرنسا من جهة الغرب، لكن إحجام فرنسا عن التَّقَدُّم؛ إطاعَةً للرأي العام النَّصْراني، الذي كان مُتأجِجًا على مَلكها؛ لدُخوله في حِلْف مع دولة مسلمة؛ لمحاربة دولة نصرانية، كان السبب في عدم نجاح هذا المشروع، الذي لو تَمَّ، لكانت نتيجته -والله أعلم- دخول بلاد إيطاليا بأَسْرها تحت ظِلِّ الدولة العثمانية، وانتهى الأمر بأن تَهادَن ملك فرنسا مع الإمبراطور شارلكان، وأَمْضَيا مُهادَنة نيس سنة 1538م (945هـ).
أما من جهة البندقية، فاستمرت الحرب بينها وبين الدولة العثمانية سِجالًا، حتى انتهت بالصُّلْح في أواخر سنة 1538م (945هـ) بتنازل البندقية عن ملفوازي، ونابولي دي رومانيا، من بلاد مورة باليونان [7].
عهد السلطان سليم الثاني
وفي عهد السلطان سليم الثاني تم فتح جزيرة قبرص، التي كانت تابعة للبُندقية، فأُرْسِلَت إليها المراكب الحربية في سنة 978هـ / 1570م، تحمل مائة ألف جندي، وحُوصِرَت مدينة فماجوست ماغوسه مرتين، حتى تم فتح الجزيرة في 10 ربيع الأول سنة 979هـ / 2 أغسطس سنة 1571م.
وغَزَت المراكب العثمانية جزيرة كريت، وظنته، وغيرها، بدون أن تفتحها، واحتلَّت مدائن دلنسنيو، وانتيباري على البحر الأدرياتيكي، فلما رأت البندقية تَغَلُّب العثمانيين عليها، وفتح كثير من بلادها، استعانت بإسبانيا، والبابا، وتم بينهم الاتفاق على مُحارَبة الدولة بحرًا؛ خَوْفًا من امتداد سُلْطَتها على بلاد إيطاليا، وآل ذلك إلى وقوع معركة بحرية كبرى سنة 979هـ / 1571م بالقرب من ليبنة، خَسِر فيها العثمانيون خَسائر فادِحة [8].
ولكن سرعان ما عَرَضَت البندقية الصُّلْح على الدولة العثمانية في سنة 980هـ / 1573م، بسبب وقوع الشِّقاق بين القبودان البُنْدقِي والقبودان الإسبانيولي، فقَبِل العثمانيون، على أن تتنازل البندقية للدولة عن جزيرة قبرص، وأن تدفع البندقية غَرامَة حَرْبِيَّة، قَدْرُها 300 ألف دوكا، وقد كان العثمانيون أَتَمُّوا استعداد 250 سفينة جديدة قبل وقوع الصلح المذكور [9].
عهد السلطان إبراهيم الأول
وفي عهد السلطان إبراهيم الأول، ابن السلطان أحمد الأول تَمَّ فَتْح جزيرة كريت، وكانت تابعة لجمهورية البندقية، حيث أمر السلطان المذكور بتجهيز عمارة بحرية قوية؛ لفتح تلك الجزيرة؛ لأهمية موقعها الجغرافي الحربي عند مدخل بحر أرخبيل اليونان، ولتوسطها في الطريق بين الآستانة وولاية الغرب، ورَسَت العِمارة الحربية العثمانية أمام مدينة خانية، أهم ثغور الجزيرة في 29 ربيع الآخر سنة 1055هـ / 24 يونيه سنة 1645م، وافتتحتها بدون حرب تقريبًا؛ لعدم وصول العِمارة الحربية البندقية إليها في الوقت المناسب، فانتقم البَنادِقة بحَرْق ثُغور بتراس، وكورون، ومودون من بلاد موره باليونان [10].
عهد السلطان محمد خان الرابع
وفي أيام السلطان محمد خان الرابع: تَغَلَّبت مراكب جمهورية البندقية على عِمارة الدولة العثمانية البحرية عند مدخل الدردنيل، واحتلت تنيدوس، وجزيرة لمنوس، وغيرهما، ومنعت بذلك المراكب الحاملة للقمح، واصناف المأكولات عن الوصول إلى القسطنطينية من هذا الطريق، حتى غَلَت جميع الأصناف، ولكن الوزير محمد باشا الشهير بكوبريلي، والذي تولى مَنْصِب الصُّدارَة العظمى في الدولة سنة 1067هـ / 1656م، أرسل المراكب في أواسط يوليه سنة 1657م (1068هـ)؛ لمحاربة سُفن البَنادِقة المُحاصِرة لمدخل الدردنيل، وانتصرت عليها بعد موت القائد البحري البُنْدقِي الشهير موشنجو، واستَرَدَّت منهم ما احْتَلُّوه من الثُّغُور، والجزائر [11].
عهد السلطان مصطفى الثاني
وفي عهد السلطان مصطفى الثاني: اسْتَرَدَّ الأميرال البحري العثماني المُلَقَّب مزومورتو جزيرة ساقز، بعد ان انتصر دفعتين على مراكب البندقية [12].
عهد السلطان أحمد الثالث
وفي عهد السلطان أحمد الثالث: تَوَلَّى علي باشا داماد مَنْصِب الصُّدارَة، وكان مَيَّالًا للحرب، غَيورًا على صالح الدولة العثمانية، مَيَّالًا لاسترجاع ما ضاع من أملاكها، خُصوصًا بلاد موره، ولذلك أعلن الحرب على جمهورية البندقية، واسْتَرَدَّ في قليل من الزمن المدن التي كانت باقية للبَنادِقة بجزيرة كريت، كما اسْتَرَدَّ جُزُرًا أخرى، حتى لم يَبْقَ للبَنادِقة ببلاد اليونان إلا جزيرة كورفو، فاستعانت البندقية بشارل الثالث إمبراطور النمسا، فأرسل إلى السلطان بلاغًا، يطلب منه فيه إرجاع كل ما أخذه من البَنادِقة، وإلا يكون امتناعه بمثابة إعلان للحرب.
فلم تقبل الدولة، وتورطت لعدم تَبَصُّر وزيرها في حرب عَوانٍ، لم تكن مُسْتَعِدَّة لها آنذاك، فانتصر النمساويون عليها في موقعة بترواردين سنة 1716م (1128هـ)، وقتل في المعركة الصَّدْر الأعظم علي باشا داماد نفسه، واستولت النمسا على مدينة تمسوار، وبلغراد، ثم وقعت الدولة العثمانية معهم صلحًا سنة 1718م (1130هـ)، تنازلت فيه للنمسا عن ولاية تمسوار، ومدينة بلغراد، مع جزء عظيم من بلاد الصرب، وآخر من بلاد الفلاخ -وهي رومانيا، وسمحت لجمهورية البندقية أن تظل محتفظة بما احْتَلَّتْه من ثغور شاطئ دلماسيا –بكرواتيا، أما بلاد مورة، فترجع إلى الدولة، وسُمِّيَت هذه المعاهدة بمعاهدة بساروفتس [13].
______________
المصدر: شبكة الألوكة.
[1] صبح الأعشى (5/349).
[2] انظر: تاريخ الدولة العلية العثمانية (ص155).
[3] يقع بحر إيجة بين شبه الجزيرة اليونانية والأناضول، ويتصل بالبحر الأسود وبحر مرمرة عن طريق مضيقي البوسفور، والدردنيل، وتطل عليه تركيا، واليونان، وللسيطرة عليه دور كبير في إحكام القبضة على شمال شرق البحر المتوسط، ومدخل البحر الأدرياتي.
[4] انظر: تاريخ الدولة العلية العثمانية لفريد بك المحامي (ص174 - 176)، وبحث بعنوان الواحة العثمانية الخامسة للدكتور محمود السيد الدغيم، وقد نشرت هذه الواحة في الصفحة 19 من ملحق التراث في جريدة الحياة بلندن، يوم السبت 27 ربيع الأول سنة 1426هـ / 4 يونيه 2005م.
[5] انظر: تاريخ الدولة العلية العثمانية لفريد بك المحامي (ص185).
[6] انظر: المرجع السابق (ص197). وقد كان السلطان سَليم في هذه المدة مُشْتَغِلًا بتجهيز عمارة بحرية؛ لمُعاودة الكَرَّة على جزيرة رودس بحرًا.
[7] انظر: المرجع السابق (ص235،234).
[8] انظر: المرجع السابق (ص255 - 257).
[9] انظر: المرجع السابق (ص258).
[10] انظر: المرجع السابق (ص287،286).
[11] انظر: المرجع السابق (ص291،290).
[12] انظر: المرجع السابق (ص309،310).
[13] انظر: المرجع السابق (ص316،315).تاريخ الصراع بين الدولة العثمانية والبندقية
التعليقات
إرسال تعليقك